ثمة ظاهرة ملفتة في الحياة الثقافية العربية، وتكاد أن تكون قد أصبحت وشماً فاحماً فيها بل قاعدة ناظمة لها، وتتحدد فيما يلي: كلما اتسعت دائرة العلاقات بين تلك الثقافة وبين الغرب عموماً وإجمالاً، سُجّلت نقاط تراجع على صعيد الأولى، دون أن يعني ذلك غياباً في نقاط التقدم. فها هنا يجري التمييز بين الثقافة والمدنية (ومن ضمنها التكنولوجيا). فعلى صعيد الثانية يجري الحديث على منتجات الثقافة والعالم المادية، التي عادة ما تندرج في إطار الاستهلاك المادي، لكن على صعيد الأولى (الثقافة) يتعلق الأمر بإنتاج القيم أو -بتعبير أدق- "منظومة القيم العقلية والأخلاقية والجمالية"وغيرها، التي يُفترض أن تضبط المدنية في سياق وظائفها وتحولاتها الإنسانية الاجتماعية، في بُعْديها الفردي والجمعي. من هنا، نلاحظ أن الغرب لم يغب عن العالم العربي ربما دائماً، لكن حضوره في هذا الأخير تحرك وفق جدلية الغالب والمغلوب، على حدّ تعبير ابن خلدون، ولكن كذلك من موقع قانون الهيمنة الإمبريالي العولمي. ومن ثم، ظلت العلاقة بين الفريقين قائمة على أساس التبعية بنيوياً ووظيفياً. وإذا أعلنّا أن مصطلح "الغرب" لا يمثل بنية مغلقة على ذاتها وقائمة على نسيج موحّد بالاعتبارين البنيوي والوظيفي، فإننا إذ ذاك نشير إلى أن قانون الهيمنة الإمبريالي المذكور لم تظهر فاعليته على صعيد العلاقة بينه وبين الآخر (هنا: الحياة العربية الثقافية والعامة) فحسب، بل ظهرت كذلك (وهذا غالباً ما غُيّب من كثير من الباحثين في المثاقفة بين الشرق والغرب مثل إدوارد سعيد وكذلك من باحثين في الاستراتيجيات وغيره) على صعيد العلاقة بين شعوب البلدان الغربية وبين منْ يملك الثروة والسلطة والإعلام في هذه الأخيرة. ويهمنا هنا أن نتتبع اتجاهاً ثقافياً في الحياة الثقافية العربية ويقوم علي الاعتقاد بأن حديثنا عن "غزو ثقافي" غربي أمر يمثل حجر عثرة في وجه التفاعل بين بلدان العالم، وخصوصاً بين شرقه وغربه. فمثل هذا الموقف تأخذ به واحدة من كبريات الكاتبات العربيات هي فريدة نقاش. ففي حديث معها تقول ما يلي: (في جريدة البعث بدمشق بتاريخ 2002/5/2): "أنا لا أحب تعبير الغزو الثقافي، ولا أستخدمه، لأن العالم يتجه نحو التفاعل مع بعضه بعضاً". ففي هذا الكلام يبرز تساؤلان هما: هل يتم الآن تفاعل ثقافي (وغيره) بين الثقافة العربية والنظام العولمي الثقافي، الذي يرى فيه أحد المعبّرين عنه، برلسكوني السياسي الإيطالي، نظاماً في ثقافة الإعلان"؟ أما التساؤل الثاني فيفصح عن نفسه على النحو التالي: هل الثقافة العربية مدعوة إلى مواجهة هيمنة ذلك النظام الثقافي المؤسس على ثورتيْ المعلومات والاتصالات؟ إنه أمر يقوم على مفارقة سياثقافية جامحة!